الناس على اتجاهات متباينة في وسائل التربية، منهم من ترك الأمر على غالبه فانفلتت زمام الأمور من يده تماما، وحجته "دع الطفل يصطدم بأمور الحياة و دع الحياة تربيه ، لا تضع له أنظمة تعقد حياته، فلقد نشأنا في بيئة صارمة جدا و لا نريد أن تنتقل تلك الصرامة إلى أولادنا بشكل أو بآخر" وهذا في الحقيقة ما أسمعه من بعض الأهالي ولا شك بأنه خطأ في تربيته هو بالأساس، حيث يجعل ابنه يدفع فاتورة ما مر به ، فيدفع فاتورة الإيذاء والعقاب والحرمان الذي عاشه، و لكن ذلك الشخص سيدفع فاتورة أخرى من طريقة هذه التربية لاحقا في تصرفات ابنه.
أحيانا قد تجد بعض الآباء لديه ضبطا صارما، وأحيانا يكون سبب ذلك الضبط من شخصيته الوسواسية القلقة، وهذه الطريقة إشكاليتها أنها تجعل الطفل هامشيا، وتهدم عنده التلقائية، بينما الطريقة الأولى في التساهل تمنحه التلقائية، ولكنها تجعل الطفل غير قادر على اتخاذ القرار ومتردد اتجاهه، ومن هنا ندرك بأن كلتا الحالتين لا تفلح في إنشاء جيل يعتمد عليه.
هناك طريقة أخرى يتبناها بعض الآباء في طريقة التربية، وهي معاملة الطفل حسب مزاج المربي، فإن كان متعب من عمله يصبح شديدا مع أطفاله، وإذا كان مرتاحا أصبح ليناً معهم، أو بحسب تقلبه المزاجي الحياتي.
والطريقة المثلى في ظني أن يُفتح المجال أمام الطفل للتلقائية، ولكن مع وضع حدود وأطر واسعة المدى، وفيها من المرونة الدرجة الكافية، بحيث يتحرك من خلالها، وهو الأنسب في رأيي لأنه ينشأ طفلا منضبطا لا معقدا ولا خائفاً، وينشأ طفلا تلقائيا لا متمرداً لا متزمتاً.
هناك قواعد الانضباط الأساسية التي علينا أن نتعلمها قبل أن نبثها أولادنا، بأن نحقق هذا النمط من التربية على أرض الواقع بالقدوة، وبأن تكون أيها الأب أمام أطفالك تلقائيا وبسيطا ومنضبطا في ذات الوقت، فتكون هذه هي المعيارية في الحياة وأن نلتزم بها، وكما قال أبو بكر للناس وعمر من بعده "قوموني إن أنا أخطأت".
الطفل يحتاج إلى فترة زمنية كافية حتى يتشرب تلك التربية على مهل، فتترك فيه الأثر الطيب الذي يؤتي ثماره عندما يكبر، فالطفل علاقته بالحياة علاقة الاستمتاع ، بينما نحن علاقتنا مع الحياة هي الواقعية وبناء المستقبل ومصلحة المجتمع، وهنا لا بد أن ندرك بأن مرجعتينا في التفكير مختلفة تماما عن أطفالنا ، وحتى ينتقل الطفل من هذه المرجعية إلى تلك يحتاج إلى مدة زمنية كافية، و يحتاج لبرنامج تربوي، بحيث نسهل إقباله عليها دون تسرع أو غلو ، وهذا نسق كوني وفطرة يجب أن نحترمها، وإلا فإنك لن تستطيع أن تنقل طفلك من اتخاذه الحياة لعبة إلى الواقع الذي يجب أن يحيياه عاجلا أو آجلا.
إن لكل مرحلة عمرية من المراحل متطلباتها النفسية ومتطلباتها الغريزية، فإن لم تُشبَع الغرائز لدى الطفل فلن ينمو غريزياً، وإن لم تُشبع متطلبات النفس لن ينمو معرفياً، وأنا لا أقول كلاماً معقداً أو غير مفهوم، وإنما هذه قواعد وأساسيات يجب أن نحققها، ونسعى جاهدين لإرسائها في نفوس أولادنا، وإلا فلن نستحق أن نربيهم، كما يجب أن أشعر الطفل بالحب وأقبل مرحلية النمو عنده، وأفرح مما يأتي من هذا الطفل مهما كان، ولا أتضايق مما لا يأتي، ولا أقارنه بغيره بأي شكل من الأشكال، لأن مقاييسنا تحسب بالدقائق، بينما مقاييس الطفل فربما بالأسابيع، كما أنها تختلف من طفل إلى آخر.
الطفل سيعطيك بمقدار ما يحبك، و لكنه سيعطيك أيضا بمقدار معرفتك وما الذي تريده أنت، إذا أحبك وأنت صاحب معرفة أعطاك ما تحبه بل وعرف ما تحبه وقدمه لك على أرض الواقع بشكل جيد، أما إذا أدرك أنك لا تعرف ما تريده فإنه سيسقط في شيء من الحيرة ، و لن يدري بالتالي إلى أين يتجه، فيجب أن ننمي أنفسنا معرفياً و نقبل بنمو أطفالنا نفسياً بمراحلهم، و نقبل المرحلية والتدرج الطبيعي الذي هو جزء من الكون لأولئك الأطفال، حتى نحقق الراحة في حياتنا، وهو مطلب أساسي يجب أن نهدف إليه، ونتعلم من المهارات النفسية قدر ما نستطيع لبلوغ الفلاح الذي تصبو اليه كل لنفس بشرية.